الحوكمة المحلية

تاريخ وتراث

  • by Joomla! 1.5
  • Explore
  • نوفمبر 10, 2020

 

نابل: مدينة عطرها الزهر تعبق تاريخا وتترصع آثارا

 

على هذه الرقعة الساحلية الخصبة، وجد الإنسان على الأقل منذ فجر التاريخ ومنذ جاءت حضارة اللوبيين التي استوعبت القادمين من سواحل فنيقيا لتكون نابل أعرق مستوتطناتهم، وهي التي كانت تدعى قرط حدشت أو المقام الحديث تماما كقرطاج. وقد ترك هذا العهد أثرا لنشاط حرفي بارز في ميدان الفخار. لكن تألق نابل القديمة يعود فيه الفضل للقائد اليوناني أغاتوكلاس الذي وإن كان مروره دمويا في سواحل الوطن القبلي، فإن نابل نالت لديه حظوة، ولعله اكتفى بترجمة اسمها القديم الذي اشتهرت به منذ هذا العهد نيابوليس المدينة الجديدة تسمية لنابولي ونابلس.

كانت نابل في هذه العهود الغابرة كما تشهد كتابات القدامى، جزءا من جنة حقيقية بفضل فلاحتها المزدهرة. وستبرز نابل في العهد الروماني بشكل خاص كمركز حرفي نشيط ترك بصماته في أثر أضخم معرض للقاروم معروف في المتوسط. وما من شك أن الحرف المرتبطة بالبحر وبالفلاحة هي التي تفسر قدرا من الازدهار الحضاري الذي عرفته المدينة في هذا العهد الروماني كترجمة لوحات الفسيفساء الرائعة المشيرة لحياة الرفاه ، رفاه جعل نخبتها تتبرع لأحيانا بما يفوق العشر سيستارس (وهي العملة الرومانية) لفائدة المشاريع العامة ومازالت الأنصاب التذكارية و الجنائزية تشهد على هذا الازدهار خاصة في القرنيني الثالث والرابع ميلادي.

إلا أن نابل بقدر ما كانت محظوظة طبيعيا، بقدر ما كانت ضحيتها، إذ ستشهد فيضانات يوم 21 جويلية 365 ميلادي أجبرت فيما يبدو سكانها إلى الانعزال في قصر محصن بعيدا عن شاطئ البحر. هذا القصر الذي ألحق به مسجد بعد الفتح الإسلامي والذي صار يعرف بقصر نابل. ومازالت حدوده قائمة الذات في حومة القصر نواة المدينة العربية الإسلامية.

لئن لم ترتق نابل في العصر الوسيط المتقدم إلى رتبة الحواضر الكبرى، إذ حجبتها نوبة (سيدي داود حاليا) ثم منزل باشو (خنقة الحجاج)، فقد كانت نابل قصرا عامرا وجزءا من سلسلة الرباطات بإفريقية التي ضمنت أمن سواحل البلاد وحافظت على ملكية الدولة من الأراضي الفلاحية.

وقد تألقت خلال هذه الفترة أسماء بعض المرابطين من المنطقة منهم اسماعيل بن رباح الجزري (القرن الثالث هجري الموافق للقرن التاسع ميلادي). استفادت نابل في ما يبدو من تخريب منزل باشو في القرن الخامس للهجرة/ الحادي عشر ميلادي، وبدأت منذ ذلك الحين تفتك ريادة الوطن القبلي، وهو ما تأكد في الفترة الحفصية (القرن السابع هجري الموافق للقرن الثالث عشر ميلادي). ففي هذه المرحلة شهدت نابل توسعها العمراني الأول وخرجت من حدود قصرها الضيق ليظهر بها أول حي ويظهر به جامعه ذو الطراز الحفصي (جامع بوغدير حاليا).

ولا شك أن الضغط الديمغرافي هو الذي يقف وراء توسعة جامعها الأكبر خلال هذه الفترة أيضا. ولم يكن هذا النمو في عدد السكان ليخلو من أثر عائلات ولائية مرتبطة بالمعاوين وعائلات شريفة مازالت آثارها باقية في مقبرة سيدي الشريف.

إن مدينة نابل التي نعرفها ونراها هي بالأساس نتيجة طفرة عمرانية، إجتماعية وإقتصادية واضحة في الفترة الحديثة، استفادت دون ريب من استقرار جالية موريسكية مهمة بها فيها اليهود والمسلمين جاءت بذوقها الرفيع في المأكل والملبس ونمط الحياة وكذلك حرفها العديدة المتقنة. كما صارت المدينة مستقطبة للقادمين من جهات أخرى مأزومة في ذلك الوقت وخاصة الجرابة الذين أحيوا صناعة الفخار فضلا عن ما وجدوه من الخزف الأندلسي. فاكتسبت المدينة بفضل المزيج المتلاحم والمنصهر في أحياء جديدة طابع المدينة المنفتحة التي لا تعترف بالتقسيم الإثني أو الديني إلى درجة استيعابها لقرى مجاورة صارت نسيجا منها مثل بني زيد (بئر شلوف حاليا). ولا شك أن الأسواق المحيطة بالجامع الأكبر مثل سوق البلغة تعود إلى هذه الفترة.

وفي المرحلة الاستعمارية ظهرت أحياء أوروبية وربطت نابل بشبكة السكك الحديدية. لكن لا الوافدين الجدد ولا البضائع المستوردة تمكنوا من كسر إرادة الحياة لدى أهل نابل. فلا أحد لم يشرب من إناء نابلي ولا أحد لم يسجد في مسجد على حصير نابلي ولا أحد تعطر بغير زهر نابل ولا عائلة استغنت في مخزونها الغذائي على عولة وتوابل نابل.

كما قدمت المدينة في نفس الوقت على مذبح الحرية أبناء بررة انخرطوا رجالا ونساءا في الكفاح التحريري نذكر من بينهم بشكل خاص شهداء ثورة جانفي 1952.

وأخيرا ساهمت هذه المدينة في معركة بناء الدولة الوطنية وقدمت لدولة الاستقلال خيرة أبنائها وبناتها الذين عرفوا بشغفهم بالعلم والتعليم واحتلوا في كل أجهزة الدولة أرفع المناصب.

وإن الكرم المجبول عليه أهل نابل وحيوية أبناءها كانت وراء استقطاب المدينة لأعداد متزايدة من الأنشطة وخاصة السياحية والخدماتية والجامعية منها وما يتبع ذلك من تطور سكاني وديمغرافي يضعنا جميعا أمام مسؤولية الحفاظ على هذا الإرث العظيم والانطلاق منه نحو آفاق أرحب.

              أنور المرزوقي

أستاذ جامعي و رئيس اللجنة العلمية 

        لجمعية صيانة مدينة نابل

Top